حديقة الزعفران (ركن الخطابة): هي احدي الحدائق الملكية بلندن, وتعد أكبرها علي وجه الاطلاق. أما عن ركن الخطابة فيعتبر مكانا لحرية الرأي و التعبير, فمن حق رواد هذا الركن التعبير عما يريدون من دون رقابة تذكر. ذلك الركن غير مقصور فقط علي لندن و المملكة المتحدة, بل يمتد حتي دولا أخري مثل: أستراليا, هولندا,سنغافوره, بل في ترينداد و توباجو
.(ويكيبيديا)
وجب علي البداية بالتعريف كي لا يغيب المعني علي أحد, و كي يتسني لمن يعرف أن يتذكر. أما عن حديقة الزعفران المصرية فهي تلك الحديقة التي تتجسد دائما في خيالي ايام المحن و الكوارث, فقد ولجتها يوم سقوط الطائرة المصرية العائدة من اميركا, ايام مذبحة الاقصر, قطار الصعيد, قصر الثقافة ببني سويف, باخرة الحجاج, مهازل الانتخابات...............الخ.
هي الملاذ الذي الج اليه لاجلس بروية و أسأل نفسي عن السبب, من المسؤل ولماذا حدث ما حدث, بل الادهي, لماذا تكررالحدث, ولماذا يتكرر, و لماذا سيظل يتكرر؟
هي المكان الذي ادخله كلما ارتفعت معدلات البطالة و التضخم وقلت معدلات النمو و الصادرات.
أدخلها حين أقرأ عن المرأة التي أشعلت النار في جسدها لعجزها عن شراء مستلزمات المدارس لابنائها, أو عن الرجل الذي باع أحدي كليتيه ليعول أبناءه. أو حين أسمع عن رجل الاعمال الهارب بملايين الفقراء.
ادخلها لاصرخ ملئ فمي "كفي". كفي ما اسمع و ما اري و ما اقرا. كفي ما يحدث, هذا لا يتحمله بشر.
أصرخ و أبكي ليبكي معي قلبي بحرقة من الظلم والفساد و العبث بارواح البسطاء كانما هم الاغيار في التلمود, كالحيوانات أو أدني قليلا.
أدخل لأسب نفسي والناس علي السلبية و اللامبالاة المطلقة لشعب بائس يائس. شعب استسلم قبل أن يحارب, فهزم.
أصبحت قليل الحديث مع الناس, لاني لم اعد أستطيع تحمل جهلهم و لا سطحيتهم ولا سلبيتهم. أصبحت اهتم أكثر و أكثر بحديقتي , حديقة حريتي, أجد فيها الراحة و السلوان. أتحدث علي سجيتي بلا خوف من قهر و لا تعسف و لا حتي سخرية الناس ولاوعيهم. نعم اللاوعي. تقول تريد دليلا علي اللاوعي. لا تقلق سيدي/سيدتي سأسوق لك عدة.
جالسا مع بضع أصدقاء في احدي مقاهي " وسط البلد" يمر علينا زميل سابق حاملا حقيبة بها أوراق. يسلم علينا ويبدأ في توزيع الاوراق -منشورات اذا اردت الدقة- عنوانها انجازات مبارك في خمسة و عشرون عاما. تبدا بامراض السرطان والكبد, وتنتهي بالبطالة والعنوسة. أقراها و أبتسم, فهي كخطاب الثورة مليئة بالشعارات, كلام قوي و موحي , لكنه كذلك بلا هدف
. يسالني الزميل بحنكة مفتعلة " ما هي انتماءاتك؟" أبدره قائلا "ما رايك أنت" فيرد عاقدا حاجبيه في حركة تنم عن خبرة " شكلك كدة ليبرالي حر" فلا أعلق و انما أساله " وما هي اتجاهاتك" يرد باباء "أنا طريق ثالث".
يضحك أحد أصدقائي قائلا "ده زي صلاح سالم كدة" ليقاطعه أخر " لا يا مغفل أ كيد يقصد الدائري". لا أعلق, فقط أساله " وما معني الطريق الثالث" فيرد بأسلوب يوحي بالحفظ والتكرار " هي ليبرالية تؤمن بحقوق العمال و تؤيد مطالبهم.
أبتسم لسماعي أحد "الاكليشيهات" الخاصة بالغد و كفاية. من الواضح انه حديث العهد بالسياسة , واضح من حماسه الزائد و طريقة "حفظه" للمصطلحات و الشعارات.
فجاة يمر بنا شخص أخر, فيهب له الزميل واقفا ليساله الشخص "تطلعاتهم ايه" يقصدنا, فيرد الزميل "ليبرالي حر". لا أعرف لماذا ارتبط ذلك المصطلح دوما بلعب البلي ايام طفولتي, ربما لاننا كنا دوما نلعب بقوانين " الليبي الحر" العادلة. أبتسمت للخاطرة و انتبهت الي صوت ذلك الشخص - اللذي من الواضح أنه مهم للزميل جدا – اجده يسأله "مفيش حد فيهم اشتراكي؟" فيرد زميلي أنه "لأ" .
يربت الشخص – اللذي اتفقنا انه مهم- علي كتف زميلي مهنئا اياه علي مجهوداته كأنما هو البابا يوزع البركة علي رعاياه في مشهد أسطوري
.
ما أن يغادرنا ذلك الشخص الاسطوري حتي يبدأ الأصدقاء في طرح بعض الأسئلة الهامة جدا علي غرار
"يعني ايه اشتراكي, أمال ايه الليبرالي بأه, ايه ده هوة فيه فرق بين شيعي و شيوعي, وايه هما الطريقين الأول و الثاني طالما فيه طريق ثالث"
أحافظ علي رباطة جأشي كي لا أصاب بالفالج أو أخر صريعا من الهم.
يبدأ الزميل – أكرمه الله - في شرح مبسط و أسلوب رزين أقل ما يقال عنه انه بعيد كل البعد عن الحقيقة.
أبتسم كي لا أموت, لا فائدة من التدخل, فالغلبة دوما للصوت الأعلي.و بينما " يتفلسف علينا الأخ ويتلو علينا مما فتح الله عليه من ارهاصات".
فتح عليه النار صديق أخر من دعاة "السير بجوار الحائط" ليفاجئه "وانتوا زعلانين من الريس ليه, ده زي الفل, و بعدين لسه هنستني واحد ثاني لما يتملي؟ اهه اللي نعرفه احسن من اللي ما نعرفوش" أسمع ولا اعلق.
يحتدم النقاش. لا اعلق.
لأني الان داخل حديقتي. أسب و ألعن النظام و اللانظام والجهل والغباء و كل الظروف اللتي جعلت شباب مصر المتعلم –فرضا- يتواصلوا بمثل هذا الاسلوب. وأتأسف علي ذلك الشباب الضائع بين اللاعلم و اللاعمل. الشباب اللذي كان يحلم بكل شئ, أضحي حلمه أقرب لأحلام الخنازير. يحلم بالأكل و الشرب و الجنس و لا شيء أخر, أنا و من بعدي الطوفان كما يقولون.
يزداد "رتم" الحوار ليبدأ التقاش المصري الحامي و كلمة المصري هنا تعني الكثير من الصراخ و اللعاب المتطاير اما عن كلمة الحامي فانما هي كناية عن بعض اللكمات والكثير من السباب اذا استدعت الضرورة لاثبات وجهة نظر ما.
بدأ الشباب في الحديث عن السياسة والحكم و مقارنات بين الرؤساء و بعضهم البعض.
بدأت أري الوجه القبيح للجهلة و أنصاف المتعلمين. بدأت أري الصلف و التعنت و الجلف و قلة الذوق الناجم عن قصور شديد في التربية.
بدأت اري شبابا لا يملك رأيا واضحا و انما هو رأي الأب ممزوجا باراء الاعلام المصري القاصر أو الاعلام العربي المغيب.
تري من يدافع عن عبد الناصر و هو لا يعرفه و من يتعصب للسادات الفلاح و صاحب أكبر مدرسة لعلم التسلق, بل وياللعجب تجد من يؤيد و يبارك مبارك و بنيته التحتية و أزهي عصور الديمقراطية. تراهم يسوقون أدلة واهية معظمها حواديت عن أجدادهم البشاوات و أبائهم اللذين حاربوا كلهم في أكتوبر. تسمع كلاما يضحك و لا يبكي. فكيف يبكي الانسان من فيلم كرتوني حتي و ان كان سمجا.
أضحك وأدخل حديقتي, تحثني نفسي أن شارك برأيك ,قل , تحدث. أهم أن أدخل فلا أستطيع لا فائدة. ان الغلبة للصوت الأعلي دوما.
أعود لحديقتي فأحدث نفسي. أتحدث دوما بصوت المنطق مع نفسي. أفند وأبحث و أفكر فلا مكان عندي للصوت العالي.
ولكن هيهات أن أدخل حديقتي وسط هذه الحرب الضروس, وسط كل هذا اللعاب و السباب و الصراخ و مزج الجد بالهزل. فكلما لاحت لي الفرصة بالتدخل, قاطعني أحمق ما مطلقا دعابة سخيفة تحول دفة الحديث الي اي حوار جانبي تافه.
ولكن من قال اني اكره ذلك بل بالعكس, كلما زادت ضحالة و تفاهة الحوار, كلما اصبحت مستمتعا أكثر. ذلك لأنهم حينها يتكلمون عما يعرفوه بالفعل و هو الحوار التافه الملئ بالجنس والنسوان- لا أعرف لم يصرون علي تسمية النسوان هذه- و الكرة طبعا. هذا ما يجيدون فعلا لذلك يكون الحوار شيقا.
بعد فترة تعتاد أنت نفسك علي تحويل أي حوار جاد الي حوار سطحي فاشل و كلام هابط, ذلك انك رايت ما يحدث حين النقاش في مواضيع جادة.
أصبحت أفعل ذلك عن عمد, دوما ما أفتح حوارا هابطا ولا يلبث الجميع أن ينضم بينما أعود أنا لحديقتي لأناقش نفسي في المواضيع الجادة و الهامة, فقد توصلت الي حقيقة هامّة الا وهي أني و نفسي أنسب من ينشأ بينهما حوارا هادفا, لا لأننا نتشارك نفس الأراء دائما فلا نختلف, بل لأن لغة الحوار تكون هادئة بلا تشنج والحوار يكون مركزا غير مشتت. هنا فقط يسهل الاقناع, يمسي طرح المواضيع – أي مواضيع- أسهل و أنسب.لذا, لم أعد أحتاج أحدا لأحدثه و أحاوره.
!!!!!!!!!!!!!أنا و نفسي و حديقتي و كفي.